يشُحُّ الغنيّ
«ويشحُّ الغنيّ بما في يديه، ويبيع الفقير آخرته بدنياه، فيا ويل الفقير وما يحلّ عليه من الخسران والذلّ والهوان...»([1]).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما اجتمع مال إلاّ من بُخل أو حرام».
والمال اليوم يملكه مَن لم يكن يملكه لكع ابن لكوع، فالذين لا يخافون الله، يسرقون قوت الشعوب، يسرقون البنوك، يسرقون المتاجر والبيوت، وهناك سُرّاق كبار ; فتجتمع الأموال، وتكثر الأطماع، وتقلّ العطايا، وتحلُوا في عيون الأغنياء، يفكِّر الغنيّ كيف يستثمر الأموال، وكيف يجمعها، ولا فرق لديه أمِن حِلّ أم من حرام، المهمّ المال، فكَم من مالك للمال لم يُزكِّي ماله؟ وكَم من مالك يشحُّ بما في يديه ويستجدي، فيحرم أهله ومتعلِّقيه من مدِّ يد العون والمساعدة فيتمنّى الأولاد موته؟ وكَم من مالك يشحُّ بما في يديه من مال على الفقير والمحتاج؟
قال تعالى: (وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرهم بِعَذَاب ألِيم)([2])، أُولئك لهم عذاب أليم، يوم تُكوى بها أجسادهم، ويُحاسبوا عليها أشدّ الحساب، ففي الحلال من المال حساب، وفي حرامه عقاب، وفي الشبهات عتاب، ولكن حبّ المال أعمى بصائرهم وبصيرتهم.
فكَم من مالك للمال وجبت عليه فريضة الحجّ، ولم يحجّ خوفاً على ما يُخرجه من حقّ الفقراء والمساكين: (وَفِي أمْوَلِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ)([3])، نعم المال زينة: (المَالُ وَ البَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا...)([4])، ولكن إذا جاء من حلّه وفي حلّه، والمال عدوّ إذا جاء من غير حلّه وفي غير حلّه: (إنَّمَا أموَالُكُم وَأوْلادكُم فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظيمٌ)([5])، والغنيّ الذي يشحُّ بما في يديه من الحقوق يتحمَّل مسؤوليّة حرمان المستحقّ.
ولو أنَّ مالكي المال أخرجوا الحقوق، وأعطوها أهلها، ما رأيت فقيراً، ولكن سوَّلت لهم أنفسهم، وحَلَت في أعينهم ما يملكون!! تاركين الفقير، يعاني الجوع، الحاجة، والمرض، وسوء الحال، تفرض عليه السرقة والسطو، والكذب لسدّ حاجته وحاجة العيال من المال، والحال المال سبب من أسباب التقارب والتزاور والمحبّة، بل سوَّلت لهم أنفسهم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما يشحّون.
فإن كذب باع آخرته، وإن سرق باع آخرته، وإن تحايل لكي يحصل على قوته باع آخرته بدنياه الفانية، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كاد الفقر أن يكون كفراً»، فهو في حيرة من أمره، أيصبر على الجوع والمرض والجهل فيموت كمداً؟ أم أنَّه يسرق، ويكذب، ويتحايل، فيبيع آخرته ويكون قد خسر خسراناً مبيناً؟ ولما كان لا يقوى على الذلّ والهوان، يبيع آخرته بدنياه الفانية، فيا ويل الفقير ممَّا حلَّ به ويحلّ، ولا غرابة أن تقرأ: إنَّ أغلب أهل الجنّة هم الفقراء، ولكن الصابرون منهم على البأساء والضرّاء، فأين أنتم يا أصحاب الأموال؟ أين أنت أيُّها الشاحّ بما في يديه، أوَ لست تعلم أنَّك السبب الرئيس وراء كلّ جريمة يقوم بها الفقير لفقره وحاجته، فماذا أعددت لغدك أيُّها المسكين؟!
توقّفت الأعمال، وغلت الأسعار، وساءت الأحوال، وتغيّرت الأخلاق، وقلَّت الأخلاق، وساءت الضمائر، وتركت الأحكام، وقُطعت الأرحام، وذهبت المودّة في الله، وزادت البغضاء، واختلفت النّاس، وتعدَّدت المذاهب، وأخذ المرء لا يفكِّر إلاّ في نفسه، فساء حال الفقير وتردّت، فباع آخرته بدنياه، ولو أنَّ الأغنياء أعطوا الفقراء ما يصرفونه على القمار، والزنا والإسراف، لما شكى فقير ولا عانى من الحاجة، ولما نزل غضب الله، وابتُلي النّاس بالزلازل والكوارث والحروب والأمراض، ولما سمعت الأنين، ولما شكى فقير أبداً، ولو أنَّ الأغنياء أخرجوا زكاة أموالهم والصدقات ; لما سرق الفقير ولا عانى من الحاجة، ولو أنَّ الأغنياء شعروا بشعور الفقراء من الجوع والمرض والحاجة، لما سرق الفقير ولا عانى من الحاجة، ولكن جشع الأغنياء، والشحّ الذي فيهم، وحبّ المال، جعلهم لا يفكِّرون بالآخرة، فارتضوا عذاب الآخرة، وما أعدّ الله لهم من الحساب.
ألم يعلم الأغنياء أنَّهم إن أخرجوا ما للفقراء من حقّ في أموالهم جعل الله تعالى البركة وضاعف لهم الأجر والثواب، ودفع عنهم المكاره وما لا يخطر على بال، عنهم وعن متعلّقيهم، ولكنَّهم ران على قلوبهم وعُميت أبصارهم وبصيرتهم، ويومئذ لا ينفع الندم ولا ينفع الأسف وعضَّ البنان.
والغريب في الأمر أنَّه ما آل بهم الأمر إلاّ لأنَّهم أعرضوا عن أحكام السَّماء، أعرضوا عن الدّين وتعاليمه، وتمسّكوا بمبادي الشياطين، شياطين الجنِّ والإنس، وإلاّ فإنَّ الله تعالى جعل أرزاق الفقراء في أموال الأغنياء ليختبرهم، ويجزيهم بهذا الإختبار.
قال تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُم مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ)([6])، ذلك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) بشارة الإسلام، ص: 78.
([2]) التوبة / 34.
([3]) الذاريات / 19.
([4]) الكهف / 46.
([5]) التغابن / 15.
([6]) المزمل / 20.