التأمّل العميق
أكثر الناس يتوهّم أنّ التأمّل العميق يقتضي من الإنسان أن يعتزل المجتمع ويقطع علاقاته بالعباد، ثم ينسحب إلى غرفة خالية ويضع رأسه بين يديه و... إنّهم يصنعون من التأمّل العميق قضيّة صعبة للغاية، تجعلهم يخلصون إلى القول بأنّ الفعل سمة خاصة بالفلاسفة فقط، مع أنّ المسألة أبسط من ذلك بكثير، فكما ذكرنا في المقدّمة فإنّ الحق المتعال يدعو جميع عباده ليتأمّلوا ويتدبّروا خاصة في آيات كتاب الله الذي أنزله الحق المتعال لهذا الغرض. يقول جل وعلا: [كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب]( [1])، ويمتدح الله عباده الذين يقودهم تدبّرهم وتأمّلهم إلى إدراك الأسرار وبالتالي إلى مخافته سبحانه [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( [2]). فالضروري في الفعل كلّه إذاً أن يقدر العبد على تطوير ملكة التأمّل عنده وتعميقها أكثر فأكثر.
إنّ العبد الذي لا يبذل جهده في التأمّل والتدبّر والتذكّر يعيش في حالة دائمة من الغفلة، وحالة الغفلة التي يعيشها أولئك الذين لا يتأمّلون بما توحيه كلمة الغفلة من التجاهل والانغماس في الشهوات والوقوع في الإثم والاستخفاف والاهمال هي نتيجة من نتائج تجاهلهم وتناسيهم للغاية من خلقهم ولكل المعارف التي أعطاهم إياها الدين، وهذا الفعل عظيم وخطير ومؤداه في النهاية إلى نار جهنم؛ لذلك حذرنا كتاب الله أن لا نكون من الغافلين.
قال تعالى: [واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين]( [3])
وقال تعالى:[وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون] ( [4]).
ويبين الله تعالى زيغ الذين يتّبعون ما ألفوا عليه آبائهم إتباعاً أعمى دون أن يفكّروا بما يحمله التقليد من ضلال، ولو نوقشوا في أمرهم لأجابوا فوراً بأنّهم مؤمنون بالحق المتعال ملتزمون بتعاليمه، لكن بما أنّهم لم يعقلوا فيتأمّلوا ويتدبّروا ويتّعظوا فإنّ إيمانهم هذا لم يؤدي بهم إلى الصلاح وإلى مخافة الله الحقّة. إنّ عقليّة هؤلاء العباد تظهر بوضوح من خلال الآيات التالية:
[قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ* قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ]( [5]).
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ ص: 29.
[2] ـ آل عمران: 191.
[3] ـ الأعراف: 205.
[4] ـ مريم: 39.
[5] ـ المؤمنون: 84 - 90.