التأمّل والبيئة الزمانيّة
إنّ التأمّل والتدبّر لا يستدعيان موقعاً أو زماناً أو شروطاً محدّدة، فالعبد يمكن أن يتأمّل ويتدبر خلال المشي في الشارع، أو عند توجّهه إلى مكتبه، أو خلال قيادته لسيارته، أو خلال عمله أمام شاشة الكومبيوتر، أو خلال جلسات السمر مع أصدقائه، وربما خلال رؤية التلفزيون أو حتى خلال تناول الطعام.
أثناء قيادة السيارة - على سبيل المثال - يمكن رؤية مئات العباد في الشوارع، وعندما ينظر الإنسان إلى هؤلاء النّاس يمكنه أن يتأمّل في اُمور شتّى، فلربّما انصرف ذهنه إلى الاختلاف الكامل في المظهر بين هؤلاء العباد، فليس هناك واحد منهم يشبه الآخر! كم هو مذهل هذا الإختلاف في المظهر بين العباد الذين لديهم نفس الجوارح من العيون والحواجب والرموش والأكف والأيادي والأرجل والأفواه والاُنوف... ولو استغرق العبد في التأمّل والتدقيق الذهني والمعنوي أكثر لتذكّر أنّ الله تعالى قد خلق الاُلوف من العباد منذ ملايين السنين وكل واحد منهم مختلف عن الآخر، وما ذلك إلا دليلٌ على عظمة الحق المتعال سبحانه وتعالى.
والذي يراقب كل هؤلاء العباد يحثُّون الخطى تتجاذبه أفكار شتى، فللوهلة الاُولى يبدو أنّ كل واحد من هؤلاء هو نسيج وحده، له عالمه الخاص واُمنياته ومشاريعه وذوقه واُسلوبه في العيش، وأمور تفرحه وأخرى تحزنه.. ولكن هذا الخلاف بين العباد ليس أساسياً، فبصورة عامّة كل عبد يولد ويكبر ويتعلّم ثم يتزوّج وينجب الأولاد ويزوجهم ثم يتوفّى في النهاية. من هذه الناحية ليس هناك اختلافٌ كبير في حياة العباد، سواء كانوا يعيشون في حي في إستانبول أو في مدينة في المكسيك، فإنّ ذلك لن يغيّر شيئاً، فكل هؤلاء العباد سيموتون وربما بعد قرن من الزمان لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة.
ومن يدرك هذه المعارف لا بدّ أن يسأل نفسه: بما أننا في المستقبل سنموت جميعاً لماذا نتصرّف وكأننا لن نبارح هذا الوجود؟ ولماذا يتصرّف من أدرك حتميّة موته وكأن هذه الحياة الدنيا لن تنتهي،في حين يجدر به أن يجاهد من أجل الفوز بالآخرة؟!
أنّ غالبية العباد لا تتأمّل بهذه الاُمور فإنّ من توصّل إلى التأمّل بها سيخلص إلى نتائج حاسمة، فلو سئل أكثر الناس بصورة مفاجئة: بماذا تتأمّلون في هذه الثانية؟ سيظهر بوضوح أنّهم يفكرون بإمور ليست ذات بال ولا تعود عليهم بالنفع.
وعلى كل حال، فإنّ كل عبد يمكن أن يتأمّل بحكمة في اُمور ضروريّة وذات قيمة ومعنى ويتدبّرها ويخلص إلى نتائج من وراء ذلك. ويعلمنا كتاب الله عزّوجلّ أنّ من صفات العاشقين أنّهم يتأمّلون ويتدبّرون؛ ليخلصوا إلى النتائج التي تعود بالنفع عليهم.