التأمّل في أحوال النفس
يقول الإمام الخميني المقدّس (ره):«من درجات التفكّر أيضاً التفكّر في أحوال النفس يؤدي إلى نتائج كثيرة ومعارف عديدة، وإننا سنلقي نظرة على نتيجتين اثنتين: الاُولى: العلم بيوم المعاد، والثانية: العلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، أي النبوة العامة والشرائع الحقّة»([1]).
إنّ من حالات النفس هو تجرّدها، وهي حالة لم يُولِ الحكماء العظام أهمية لأية مسألة حكمية فلسفية اُخرى مثلما أَوْلُوا هذه المسألة وأثبتوها بالأدلة والبراهين، ولكنّنا لسنا الآن في صدد إثبات تجرّد النفس بصورة مفصّلة، وإنّما نكتفي ببعض الأدلة التي لا تستعصي مبادئها على الفهم، للوصول إلى المقصود.
يُجمع الأطباء وعلماء الأبدان وفي ظل التجارب على أنّ جميع أعضاء الجسم، من أم الدماغ التي هي مركز الإدراكات ومحل ظهور قوى النفس، وحتى آخر أجزائه الصلبة، تبدأ من سن الخامسة والثلاثين، أو الثلاثين فما فوق بالانحدار نحو الانحطاط والنقصان، والاقتراب من الضعف والانحلال. ولقد جرّبنا بأنفسنا أيضاً كيف يبدو الضعف في القوى كلّها، ولكن في هذه الفترة نفسها ـــ أي من سن الثلاثين أو الأربعين فما فوق ـــ تزداد القوى الروحية والإدراكات العقلية كمالاً ورقيّاً وسداداً، ويتضح من هذا أنّ القوى العقلية ليست جسمانية؛ إذ لو كانت جسمانية لانحدرت مثل سائر قوى الجسم نحو الضعف والوهن، كما لا يمكن القول بأنّ القوى الجسمانية تزداد قوّة بكثرة أعمال القوّة الفكرية وحصول التجربة، إذ أنّ القوى الجسمانية ينتابها التعب والانحلال لا القوّة والكمال نتيجة لكثرة العمل وبذل الجهد، وهذا بذاته دليل على أنّ القوى العقلية ليست جسميّة ولا من آثار الجسم.
والاعتراض على هذا الكلام بضعف القوى الفكرية أيام الكهولة كالضعف الجسماني لا محلّ له، وذلك لأنّه:
أوّلاً: ليست هناك قوّة جسمانية تنمو وتشتدّ حتى سن الكهولة بحيث يمكن أنّ نقول بأن الموضع الفلاني من الجسم هو موضع الإِدراكات العقلية وأنّه كان يشتدّ ويزداد قوّة حتى سن الكهولة، والآن بعد أن ضعف هذا الموضع ضعفت بضعفه القوّة الفكريّة أيضاً.
ثانياً: هل إنّ هذا الضعف في الكهولة يعود إلى الفكر كقوّة حالّة في الجسم، أم أنّ الفكر يحتاج إلى قوة جسمانية فعند وهن الجسم ـ محل الفكر ـ لا يؤدي دور الفكر؟ هذا كلّه بالنسبة إلى القوة الفكرية.
وأمّا الإدراكات المحضة والملكات الفاضلة في فترة الكهولة تكون أقوى ممّا كانت عليه من قبل أيضاً، حتى وإن قل ظهورها أو إظهارها، وعلى كل حال يكفي لإثبات دعوانا تجرّد النفس ما قلناه من قوة الإدراك في سنّ الأربعين أو الخمسين مع أنّ الجسم ينحدر نحو الوهن والضعف.
وأمّا الإجابة على الاعتراض والنقض فهو أنّ النفس لمَّا تستجمع قواها من مُلك البدن وتعود القوى إلى باطن ذاتها، كلّما كانت القوى أقرب إلى عالم الجسم، كلّما كان أسرع إلى الضعف والانحلال، وكلما كانت أبعد كانت أبطأ في الإصابة بالضعف. أمّا القوى التي تنتمي إلى عالم التجرّد والملكوت فتقوى وتزداد شدّة عندما يزداد عمر الإنسان، وهذا دليل على أنّ النفس ليست جسماً ولا هي قوّة جسمانية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - الأربعون حديثاً للإمام الخميني: 193.